بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل



بيانالرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل
اعلم أنالرياء جلي وخفي فالجلي هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه ولو قصد الثواب وهوأجلاه وأخفى منه قليلا هو ما لا يحمل على العمل بمجرده إلا أنه يخفف العمل الذييريد به وجه الله كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف تنشطله وخف عليه وعلم أنه لولا رجاء الثواب لكان لا يصلي لمجرد رياء الضيفان
وأخفى منذلك ما لا يؤثر في العمل ولا بالتسهيل والتخفيف أيضا ولكنه مع ذلك مستبطن في القلبومهما لم يؤثر في الدعاء إلى العمل لم يمكن أن يعرف إلا بالعلامات وأجلى علاماتهأن يسر باطلاع الناس على طاعته فرب عبد يخلص في عمله ولا يعتقد الرياء بل يكرههويرده ويتمم العمل كذلك ولكن إذا اطلع عليه الناس سره ذلك وارتاح له وروح ذلك عنقلبه شدة العبادة وهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور ولولا التفاتالقلب إلى الناس لما ظهر سروره عند اطلاع الناس فلقد كان الرياء مستكنا في القلباستكنان النار في الحجر فأظهر عنه اطلاع الخلق أثر الفرح والسرور ثم إذا استشعرلذة السرور بالاطلاع ولم يقابل ذلك بكراهية فيصير ذلك قوتا وغذاء للعرق الخفي منالرياء حتى يتحرك على نفسه حركة خفية فيتقاضى تقاضيا خفيا أن يتكلف سببا يطلع عليهبالتعريض وإلقاء الكلام عرضا وإن كان لا يدعو إلى التصريح وقد يخفى فلا يدعو إلىالإظهار بالنطق تعريضا وتصريحا ولكن بالشمائل كإظهار النحول والصفار وخفض الصوتويبس الشفتين وجفاف الريق وآثار الدموع وغلبة النعاس الدال على طول التهجد

وأخفىمن ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع ولا يسر بظهور طاعته ولكنه مع ذلك إذا رأىالناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه وأنينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان فإنقصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعادا في نفسه كأنه يتقاضى الاحترام معالطاعة التي أخفاها مع أنه لم يطلع عليه ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كانيستبعد تقصير الناس في حقه ومهما لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلقبالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله ولم يكن خاليا عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيبالنمل  وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلممنه إلا الصديقون
 وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال إن الله عز وجل يقولللقراء يوم القيامة ألم يكن يرخص عليكم السعر ألم تكونوا تبتدءون بالسلام ألمتكونوا تقضى لكم الحوائج وفي الحديث لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم
 وقال عبد اللهبن المبارك روي عن وهب بن منبه أنه قال إن رجلا من السواح قال لأصحابه إنا إنمافارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان فنخاف أن نكون قد دخل علينا في أمرنا هذامن الطغيان أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظملمكان دينه وإن سأل حاجة أحب أن تقضى له لمكان دينه وإن اشترى شيئا أحب أن يرخصعليه لمكان دينه فبلغ ذلك ملكهم فركب في موكب من الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأبالناس فقال السائح ما هذا قيل هذا الملك قد أظللك فقال للغلام ائتي بطعام فأتاهببقل وزيت وقلوب الشجر فجعل يحشو شدقه ويأكل أكلا عنيفا فقال الملك أين صاحبكمفقالوا هذا قال كيف أنت قال كالناس فقال الملك ما عند هذا منخير فانصرف عنه فقال السائح الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي ذام
فلم يزل المخلصونخائفين من الرياء الخفي يجتهدون لذلك في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة يحرصونعلى إخفائها أعظم مما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم كل ذلك رجاء أن تخلص أعمالهمالصالحة فيجازيهم الله في القيامة بإخلاصهم على ملأ من الخلق إذ علموا أن الله لايقبل في القيامة إلا الخالص وعلموا شدة حاجتهم وفاقتهم في القيامة وأنه يوم لاينفع فيه مال ولا بنون ولا يجزي والد عن ولده ويشتغل الصديقون بأنفسهم فيقول كلواحد نفسي نفسي فضلا عن غيرهم
فكانوا كزوار بيت الله إذا توجهوا إلى مكة فإنهميستصحبون مع أنفسهم الذهب المغربي الخالص لعلمهم أن أرباب البوادي لا يروج عندهمالزائف والبهرج والحاجة تشتد في البادية ولا وطن يفزع إليه ولا حميم يتمسك به فلاينجي إلى الخالص من النقد فكذا يشاهد أرباب القلوب يوم القيامة والزاد الذييتزودونه له من التقوى
 فإذن شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر ومهما أدرك من نفسهتفرقه بين أن يطلع على عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء فإنه لما قطعطعمه عن البهائم لم يبال حضره البهائم أو الصبيان الرضع أم غابوا اطلعوا على حركتهأم لم يطلعوا فلو كان مخلصا قانعا بعلم الله لاستحقر عقلاء العباد كما استحقرصبيانهم ومجانينهم وعلم أن العقلاء لا يقدرون له على رزق ولا أجل ولا زيادة ثوابونقصان عقاب كما لا يقدر عليه البهائم والصبيان والمجانين فإذا لم يجد ذلك ففيهشوب خفي ولكن ليس كل شوب محبطا للأجر مفسدا للعمل بل فيه تفضيل
 فإن قلت فما نرىأحدا ينفك عن السرور إذا عرفت طاعاته فالسرور مذموم كله أو بعضه محمود وبعضه مذموم؟
فنقول أولا كل سرور فليس بمذموم بل السرور منقسم إلى محمود وإلى مذموم فأماالمحمود فأربعة أقسام ::
الأول أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله ولكن لما اطلععليه الخلق علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله فيستدل به على حسن صنع اللهبه ونظره إليه وإلطافه به فإنه يستر الطاعة والمعصية ثم الله يستر عليه المعصيةويظهر الطاعة ولا لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الجميل فيكون فرحه بجميل نظر اللهله لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم وقد قال تعالى قل بفضل الله وبرحمتهفبذلك فليفرحوا فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول ففرح به
 الثاني أن يستدل بإظهارالله الجميل وستره القبيح عليه في الدنيا أنه كذلك يفعل في الآخرة إذ قال رسولالله صلى الله عليه وسلم ما ستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره عليه فيالآخرة حديث ما ستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة أخرجهمسلم من حديث أبي هريرة فيكون الأول فرحا بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبلوهذا التفات إلى المستقبل
الثالث أن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعةفيتضاعف بذلك أجره فيكون له أجر العلانية بما أظهر آخرا وأجر السر بما قصده أولاومن اقتدى به في طاعة فله مثل أجر أعمال المقتدين به من غير أن ينقص من أجورهم شيءوتوقع ذلك جدير بأن يكون سبب السرور فإن ظهور مخايل الربح لذيذ وموجب للسرور لامحالة
الرابع أن يحمده المطلعون على طاعته فيفرح بطاعتهم لله في مدحهم وبحبهمللمطيع وبميل قلوبهم إلى الطاعة إذا من أهل الإيمان من يرى أهل الطاعة فيمقتهويحسده أو يذمه ويهزأ به أو ينسبه إلى الرياء ولا يحمده عليه فهذا فرح بحسن إيمانعباد الله وعلامة الإخلاص في هذا النوع أن يكون فرحه بحمده غيره مثل فرحه بحمدهمإياه
وأما المذموم وهو الخامس فهو أن يكون فرحه لقيام منزلته في قلوب الناس حتىيمدحوه ويعظموه ويقوموا بقضاء حوائجه ويقابلوه بالإكرام في مصادره وموارده فهذامكروه والله تعالى أعلم.

تعليقات